شريف عازر يكتب: رحلة إلى ما وراء الأقنعة.. دراسة لفلسفة الموت في أدب يوسف السباعي

أظهر لنا يا موت، فإننا لا نخشاك…ولكننا نخشى مفاجأتك… نخشى نذالتك وجبنك، نخشى طرقك البهلوانيةووسائلك المسرحية\”[1]

\”لقد عشت حياتي أحاول أن أقهر الخوف من الموت في قلوب الناس ، و ما زلت أعتبر الموت خصما لي\”[2]

إن كل من يتابع أدب الراحل يوسف السباعي سيلاحظ روح التحدي القوية بين يوسف السباعي و الموت، و انشغاله بقضية الجدل بين الحياة و الموت بحيث ألح علية و تكرر في معظم أعماله. و لعل موت أبيه في صباه المبكر كان بمثابة البذرة الأولى التي نمت في داخله و تفرعت عنها تنويعات عديدة على فكرة الموت. فقد كان أبوه الأستاذ محمد السباعي من رواد التأليف و الترجمة في مطالع هذا القرن و كان يملأ الحياة بهجة و نشاط و حيوية، و كان يعامل أبناءه و علي رأسهم يوسف معاملة الأخ و الصديق و فجأة و بدون مقدمات انطفأت هذه الشمعة و رحل بلا عودة.[3]

وجد يوسف الصغير نفسه فجأة أيضا في مواجهة الموت ذلك المجهول الرهيب. فقد كان يسمع عنه من الجيران و الأصدقاء عندما يرحل واحد منهم لكنه لم يتصور أبدا انه سيخطف أباه الذي كان كل شيء بالنسبة له : فقد كان له الحياة و الحب و الحنان و الحيوية و الصداقة و الأخوة.

وكان من الطبيعي أن تترك هذه التجربة المريرة بصماتها على روايات يوسف السباعي لدرجة انه قدم شخصية أبيه اكثر من مرة ضمن شخصياته. فعلى سبيل المثال في رواية \”نحن لا نزرع الشوك\”

و التي سنتناولها بشيء من التفصيل فيما بعد، تجد محمد السمادوني ذلك الأب الممتلئ حيوية المحب للحياة الذي يرحل فجأة بلا مقدمات بل أن القارئ قد يلحظ التشابه بين اسم محمد السباعي و محمد السمادوني. و لم تقتصر قضية الموت و القدر و المصير على حدود الشخصية التي ميزت الأسلوب الذي رحل به أبوه عن العالم، بل تفرعت و تنوعت لكي تشمل موقف الإنسان بصفة عامة من هذا المصير المجهول الذي يهدد الإنسان في كل لحظة من حياته و في كل مكان يوجد به دون أن يكشف عنه و يوضح حقيقته. وكان هذا هو الخط الفكري الذي بدأ مع أولى روايات السباعي وانتهى مع آخرها.

\”كان لموت أبي تأثير لا حدود له علي و أنا الصبي ، ابن الرابعة عشر. كانت هذه أول مرة أرى فيها الموت! و ما زلت رغم السنين أذكر الصورة جيدا. إنخطف أبي خلال أيام قليلة. رأيته و هو راقد على الفراش مستسلما لكمادات الثلج. و رأيته و هو يموت ! يأخذ شهيقا ثم زفيرا بضع مرات..ثم شهيق بلا زفير! ثم انهمر الصراخ وأحاطت بي الدموع من كل جانب كالفيضان\”

\”هذه الصورة، تسللت إلى وجداني و لم تفارقه. أملت على نظرة ما نحو الموت ! و لو عدت لقصصي ((نائب عزرائيل))و ((لبحث عن جسد)) لاكتشفت أنني أسخر من الموت، و اعتبره خصما أود لو أصرعه .لقد كنت أحاول ككاتب أن أزيل هيبة الموت و أجعل الناس تراه كما أراه: مجرد حالة انتقال من الحركة ..إلى السكون و الجمود و اللاحركة\”[4]

و قد قدم يوسف السباعي قضية الموت بأكثر من وسيلة: بالقالب الفنتازي حينا بحيث تذوب الفواصل بين عالمي الحياة و الموت، و يتقبل ظاهرة الموت كظاهرة طبيعية حينا، و بأن الموت مصدر رزق للبعض كما أنها مصدر أحزان للبعض الآخر، بل بتفضيل العالم الآخر على الحياة الدنيا فلا يعود الموت مصدر قلق و خوف بل زائرا نرحب به و نتمناه. و أخيرا حاول السباعي التغلب على مشكلة الموت بأسلوبه المرح الساخر خالقا بذلك لونا من التوازن بين قتامة الموت و فكاهة الأسلوب.و من الواضح في فلسفة يوسف السباعي عن الموت أنه لا يوجد ما نخشاه في الموت بل على النقيض، فالموت يمثل راحة و خلاص من الحياة بكل ما فيها من تناقضات و مفارقات و سخريات القدر .و في رأيي أن الوصول الى هذه الفكرة وتقبلها أمر طبيعي لكل من تعمق في فهم الحياة و بزل وجهده في فهم مغزاها و فائدتها. و لكن هناك ما هو مؤلم في الموت و هو موت من نحب. عندما نواجه الموت من خلال موت شخص نحبه فإننا نبدأ في الخوف من الموت و ستجد هذه الفكرة واضحة في اغلب أعمال يوسف السباعي.

في كل رواية ليوسف السباعي ستجده يسبر أغوار حقيقة الموت وكأنه قد أخذ على عاتقه كشف أسرار هذا الكيان الأسطوري نازعا عنه القناع تلو الآخر ، تلك الأقنعة التي يأتي بها الموت و التي لا يدرك أي بشري ما ورائها.  و سنتناول بعض أعمال الأديب الراحل يوسف السباعي و سنحاول أن نستخلص منها فكر و فلسفة السباعي في قضية الحياة و الموت.

 

……….

نائب عزرائيل (1947): إهداء إلى سيدنا عزرائيل ..الجميل!!

 

\”أتدري أن الإنسان مهما بلغ من تبرمه بالحياة و كرهه لها..تجده يتعلق بأهدابها و يخشى الموت، رغما عن تأكده أنه سيضع حدا لضيقه و بؤسه-لا شيء إلا لفرط ما يتخيله في الموت من بشاعة\”[5]

و علي الرغم من أن \”نائب عزرائيل\”، و هي أول رواية ليوسف السباعي، رواية كوميدية اجتماعية إلا انه حاول فيها الاقتراب من سر الموت الذي لم يستطع العلم تفسيره فهو يقول صراحة أن \”هذا الكتاب يا سيد عزرائيل..أنت بطله..فهو منك و إليك..حاولت فيه بدافع الوفاء لك أن أظهرك للبشر على حقيقتك\”و من خلال كل الإمكانيات الخيالية الموجودة في الفانتازيا ينتقل بنا السباعي إلى العالم الآخر مفترضا تسجيل اسمه خطأ في سجل الوفيات مما يضطر عزرائيل إلى إرساله مرة أخرى إلى الأرض حتى يحين اجله في موعده المكتوب له لأنه ليس أمام عزرائيل سوى إعادته و إحضار الرجل الآخر طبقا للقدر المسجل. و لكن البطل خلال هذه اللحظات يستطيع اكتشاف سر الموت فهو على حد قوله بمثابة انتقال سهل، بسيط،هين، لين،خفيف، لطيف، بل و أسهل كثيرا من الانتقال من مكان إلى آخر على وجه الأرض، بلا دواليب و لا كراكيب و لا عفش و لا شنط ،و نبدأ الإحساس بأن الموت، هذا السيف المسلط على أعناقنا، قد انزاح كابوسه من على كاهلنا لأنه ليس بالرهبة الميتافيزيقية التي ترسبت في أذهاننا. يقول البطل:\”أجل لقد عودنا الموت أن يكون طائشا أحمق .فهو زائر لا معاد له، يزورنا بسبب و بلا سبب\” و لكن لو أدرك الناس انه سواء كان طائشا أو حكيما فهو جوهرة ارتقاء من حالة الدنيا إلى حالة عليا لما خافوا منه و لما عملوا له كل هذا الحساب.

و من اجمل ما في رواية نائب عزرائيل هو الإهداء ،فقد أهدى السباعي كتابه إلى عزرائيل نفسه و قد كانت له الأسبقية. فيقول \”هل سبق لغيري من البشر أن أهدى لك كتابا؟\” . و في الرواية يدرك عزرائيل أن بطل الرواية قد أدرك حقيقة الموت فيخشى أن يعود به إلى الأرض حتى لا يفقد الموت هيبته و ذلك لأن حقيقة الموت كما أدركها البطل انه انطلاق من سجن الحياة و تحرر من قيود الجسد و ليس فيه هذا الفزع و الجزع و يتعجب لماذا الناس يستقبلون الموت بلطم الخدود و شق الثياب كلما زار لهم الموت قريبا أو حبيبا فالموت ليس من البشاعة بحيث يستحق هذا البغض و هذا النفور. و في هذه الرواية تلاحظ شوق يوسف السباعي للإدراك حقيقة الموت مما جعله يتخيل هذه الحقيقة. و من استيعاب يوسف لفلسفة الحياة أدرك أن الحقيقة تكمن خلف هذا الحاجز المادي و هو حاجز الجسد و عندما نتخلص من هذا الحاجر سندرك حقيقة الموت و حقيقة الحياة أيضا التي حتى الآن لا يعرف لها حقيقة أو سبب.

ولكن تكمن مشكلة خوف الإنسان من الموت لأنه يجهل ما بعد الموت و ذلك يجعل الإنسان متمسكا بالحياة اكثر. فيقول السباعي على لسان البطل مخاطبا عزرائيل\” أتدري أن اكبر كارثة يمكن أن يبتلى بها المرء في حياته هي الموت ..أتدري أن الإنسان مهما بلغ من تبرمه بالحياة و كرهه لها تجده يتعلق بأهدابها و يخشى الموت-رغما عن تأكده انه سيضع حدا لبؤسه و ضيقه-لا شيء إلا لفرط ما يتخيله في الموت من بشاعة\”[6]. فالإنسان مهما تبرم من الحياة لكنه دائما متمسك بأهدابها و راغب دائما في الازدياد منها. و ينقلنا السباعي الى نقطة خفية في الطبيعة البشرية و هي عدم اقتناع الإنسان بأنه سيموت يوما و يقول السباعي أن الإنسان يستطيع أن يعتاد كل مكروه في حياته إلا الموت..فهو لا يعترف بأن الموت حق و هو لا يوطن نفسه عليه ولا ينتظره كحادث لا بد من حدوثه بل هو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، إما كونه يموت غدا فذلك ما لا يستطيع تصوره فهو يفترض في نفسه الخلود. فتجد الإنسان عندما يسمع عن موت فلان ،تجده يضرب صدره بيده و يقول \”يا ساتر يا رب ..لقد قابلني بالأمس فقط و كان صحيحا سليما\” كأنه على يقين أن الموت لا يقرب الأصحاء أو أن مقابلته له أمس تمنعه من الموت اليوم وكأنه يظن أن صاحبه الأول من نوعه الذي يموت بمثل هذه الكيفية. و آخر عندما يسمع ان فلانا مات فيصيح قائلا\” يا شيخ !!لقد كان رجلا طيبا..إن له أولاد محتاجين له\” و تري عليه جم الدهشة وكأنه أول مرة يسمع عن موت رجل طيب عنده أولاد محتاجين له. و تجد الإنسان يتعجب بل و يستنكر موت من في رأيه لا يستحق الموت أو عنده سبب يمنعه من الموت مع انه مدرك تماما ان كل إنسان معرض للموت في أي لحظة و أن الموت ليس له قواعد و لا قيود و لكن لا يستطيع الإنسان إلا الاندهاش كلما التقى بالموت لعدم إدراكه ان في لحظة قد يصبح الجسد الجم النشاط جثة هامدة. و كما قال السباعي ان الإنسان يعرف خطأ القائل:

والموت نقاد على كفه.. جواهر يختار منها الجياد

فالموت لم يكن بنقاد قط و هو يختار الجياد و غير الجياد. فالموت يزور بسبب أو بغير سبب و بالرغم من كل هذا فكلما زارنا الموت نندهش و كأننا ما سمعنا عنه من قبل و كأننا على ثقة من أن الذي أصيب به كان من المخلدين و لم يكن إنسان معرضا للموت في كل لحظة كغيره من البشر.

و في نهاية الإهداء يقول السباعي لعزرائيل:\”و إنني يا سيدي في انتظار اللقاء.. إما علي صفحات كتاب آخر أو في السماء ..ما بي من خشية و لا رهبة فالحياة و الموت عندي سواء\”

…………

أرض النفاق (1949): موت الأخلاق:

 

\”ما حاجتي إلى تقدير الأحياء ..و أنا بين الأموات؟..ما حاجتي إلى أن يذكروني في الدنيا و أنا في الآخرة!!و يمجدوني في الأرض و أنا في السماء\”[7]

وهي رواية مشهورة ليوسف السباعي و إن كانت تتعرض لموضوع النفاق و ماذا سيحدث إذا تجرد الإنسان من قناع النفاق و لكن السباعي في هذه الرواية عرض بعض فلسفته عن الموت في موضعين. الموضع الأول في المقدمة و الثاني في الفصل الثاني عشر. و سوف تتعجب عندما تعرف ان السباعي قد اهدي الكتاب لنفسه و يقول في ذلك \”أني أود أن أكرم نفسي و هي على قيد  الحياة..فلشد ما أخشى ألا يكرمني الناس..إلا بعد الوفاة..و نحن شعب يحب الموتى..و لا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا في باطن الأرض\” فهو يعرف أن من يموت لا تفرق معه أن هناك من يكرمه و يقيم له حفلات التأبين و الذكرى السنوية و لكنه يريد أن يكرم و هو حي حتى يتمتع بهذا التكريم. فإذا ما كان الإنسان على الأرض فليتمتع مباهجها و ليس هنا ما يفرح الإنسان مثل تكريمه و تقديره. و يخشى السباعي أن يمر عمره دون أن يرى تكريمه بعينيه و هو يكره أن يطبق معه المعروف لدى شعبنا وهو تقدير الإنسان بعد أن يكون رحل عن هذا العالم. وربما ذلك ناتج أيضا عن تأثرنا بحقيقة الموت مما يجعلنا ننظر إلى الشخص الميت بنظرة رهبة و تعظيم و إجلال و يجعلنا نفعل ما بوسعنا لتكريم روحه و نعيد النظر في كل أعماله السابقة فنجد أنها عظيمة و تستحق التقدير مع أن ربما نفس الأعمال قد لا تلقى نفس التقدير أثناء حياة صاحبها. مقاييس السعادة تختلف ، فما تراه جميل و مبهج في الحياة لا يشكل لك أهمية و أنت في العالم الآخر،و العكس، فما تراه كريه و صعب في عالمنا قد تدرك أهميته لاحقا في الآخرة.

والموضع الثاني الذي ذكر فيه الموت في الفصل الثاني عشر \”في الجنازة\” و واضح من العنوان انه يعرض نموذج من إحدى الجنازات بما فيها من مظاهر النفاق و طبقا لأحداث الرواية يتجرد المعزون من نفاقهم عندما يشربون جرعة دواء الأخلاق. و يصور السباعي في هذا الفصل جنازة موظف كبير في الحكومة و ما يحيط بها من مظاهر خادعة و نفاق من الموظفين و كل المحيطين بالميت. و يعرض لنا السباعي مظاهر الجنازة بما فيها من متعهد الجنازات و حملة المجامر و الحانوتي و المشيعين و الندابات. و بين المعزيين تسري موجه من الهمسات تشيد بمحاسن المرحوم و كلها مدح في مدح و هي مظاهر معروفة في الجنازات المصرية إلى أن يشربوا من الماء المخلوط بحبوب الأخلاق فيبدأ كل واحد بالظهور على حقيقته بلا أقنعة و يبدي مدى استفادته من موت المرحوم. فنري زوجة المرحوم بعد أن كانت تموت جزعا من فقدها لرجلها قد انقلبت حالتها الى سب و قذف لزوجها مظهرة كل مساوئه و عيوبه أمام الجميع ثم تنتقل منها هذه الحالة إلى الآخرين فيبدأون في ذكر مساوئ الفقيد ثم ينصرفون حتى لا يبقى أحد لحمل النعش و انتهت الجنازة بمهزلة أخلاقية.

……….

 

إني راحلة (1950):ضحية الأقدار:

\”ما أسهل الرحيل ..خطوة واحدة أخطوها فأمزق هذا الخيط الواهي الذي علقت به حياتنا ..و أنطلق هاربة إلى حيث لا تتطاولون عليّ بألسنتكم ،تاركة لكم جيفة تتلقى لعناتكم نيابة عني\”[8]

يتضح لنا من عنوان الرواية \”إني راحلة\” أن بطلة القصة قد اعتزمت الرحيل (أي الانتحار) و عند قراءتنا للرواية ندرك لماذا قررت البطلة أن تموت باختيارها.ففي هذه الرواية تعلو دقات المصير المجهول لتصبح النغمة المسيطرة علي كل ما عداها من نغمات. فالبطلة تؤكد لتا أنها لم تكن سوى ضحية القدر الذي وقفت أمامه بلا حول و لا قوة. و هذا يؤكد لنا هزيمة الإنسان إن آجلا أو عاجلا. و مع ذلك فالإنسان لا يكف عن المقاومة بكل الوسائل المتاحة. و تدور أحداث الرواية حول عايدة الفتاة التي من طبقة راقية تقع في غرام قريبها لكنه من طبقة فقيرة فيرفض أهلها ارتباطها به و يزوجونها لآخر فيخونها زوجها. فتهرب منه عايدة و تبحث عن حبيبها القديم و ما أن تجده و يقضيان بعض الوقت معه حتى عاجله الموت إثر مرض رئوي، فتقرر عايدة الانتحار لأنها لم تعد تتحمل سخرية القدر مرة أخرى.

عندما واجهت عايدة موت حبيبها و كان هذا أول لقاء لها مع الموت ، بدأت تفكر ما هو الموت و ما معنى \”آخر العمر\” فهذه الكلمة تبدو لنا منذ بضع ساعات مجرد كلمة ليس  اسهل على المرء من أن ينطقها دون أن يحاول أن يفهم لها معنى ،فهي ابعد من أن يحاول الذهن مجرد تصورها و كما قالت عايدة \” ((آخر العمر))…البعيد..الموهوم ..المزعوم..قد بلغناه في غمضة عين. بين يوم و ليلة قد قطعنا الطريق الذي كان يبدو بلا نهاية ووضحت لنا نهايته بشعة مخيفة\”. و هاهي عايدة تري مظاهر الموت لأول مرة ،وهي التي كانت من قبل إذا سمعت صراخا من بعد اقشعر بدنها و إذا رأت سرادق ميت أحست بغشاوة على عينيها. و بعد كل هذا تجد نفسها وحيدة في الليل جالسة أمام ميت و أي ميت، انه حبيب العمر.

ولكن حاولت عايدة تحدي الموت، فهي لا تصدق أن حبيبها احمد قد مات فها هو أمامها كما هو بعينيه، و شفتيه، و حاولت أن تحييه بقبلة من شفتيها لكنها وجدت في شفتيه برودة مخيفة، برودة الموت. و هنا تفقد عايدة عقلها فتشعر أنها في معركة مع الموت فتتشبث بالجسد الميت كأنها تمنعه من الخروج من عالمنا. و ترفض عايدة فكرة دفنه.

\”ليفعل الناس بموتاهم كيف شاءوا ..أما أنا فسأفعل بميتي الحبيب ،ما يحلو لي، لن أتركهم يأخذوه مني\”[9].

و هنا يحدث الصدام المتوقع و الشهير في عالم الموت ، و هو الصدام مع حكمة الله. فعندما نواجه موت أحد الأحباء نلقي اللوم و العتاب علي الخالق و ذلك بدافع لا إرادي منبعث من إدراكنا لحقيقة أن المتحكم الأوحد في مسألة الموت هو الله. فنسأل الله لماذا أخذت هذا دونا عن باقي البشر؟ و هل أنت في حاجة إليه ؟ لماذا لا تتركه بين أحبائه؟ هل موته عقاب لشيء فعله؟ و لكن قد يبدو انه عقاب لمن حوله و ليس للميت. و نجد قضية دور الله في الموت تأخذ منعطفات متعددة، فهناك من يقتنع بحكمة الله و أنه لا يفعل شيء إلا لغرض لا يعلمه سواه و لكنه غرض في صالح البشر لذا نرتضي حكم الله ، و هناك من يكفر بقضاء الله و حكمته و لا يقتنع بموت من لا يستحق الموت و يلق بكل اللوم على الخالق الأوحد ، المحيي المميت ، وقد يصل إلى مرحلة الكفر بالله و ذلك ما حدث مع بطلة قصتنا. تقول عايدة في لحظة لا وعى:\”إني أكره الله كما كرهني..إني أكفر به لما قسا عليّ به\” . و هكذا يعجز عقلها البشري المحدود عن إدراك حكمة الله ،و تصل عايدة إلى المرحلة الأخيرة في التصاعد النفسي و الدرامي فتجد الحل الوحيد لمواجهة هذه القوة الغاشمة والتي تتمثل في صورة تتأرجح ما بين صورة الله و صورة القدر و التي توحدت في عدو واحد أخذ منها كل ما تملك في الدنيا. و كان هذا الحل كما قالت:\”إني لن أستطيع أن أبقيه، و لكن أستطيع شيئا آخر، أكثر سهولة ، أني أستطيع أن أذهب معه\”. و عندما وصلت بتفكيرها إلى هذه النقطة شعرت بالراحة و الاستقرار و تبدأ في كتابة قصتها مدافعة عن نفسها ثم تشعل النار في المكان و ترقد بجوار جسد حبيبها.

\”اللهم اغفر لي كفري و إلحادي..اللهم اغفر لي فراري من الدنيا الفانية إلى الدار الباقية..اللهم اغفر لي صعودي إليك بدون إذنك و لكن ..لا..إن كل شيء لا يحدث إلا بإذنك..إنك غفور كريم رحيم\”.

وهكذا أعلنت عايدة تحديها السافر للموت الغاشم معلنة له أنها لا تستسلم لرعونته و تعلن للعالم أيضا أنها راحلة.

……….

السقا مات(1952): الإنسان.. الموت.. أيهما أحقر؟

\”لقد بت أحتقر الموت..و أحتقر أكثر منه..الإنسان\”   

\”لا..لا..ليست هذه العظام أنقاضا كأنقاض المدن، إنها قد تكون كذلك..لو لم يكن في صدورنا فؤاد يخفق و قلب يدق و ينبض..أما و هذه تكمن في حنايانا..فما أعز البقايا و ما أكرم الأنقاض..إنها أثار عزيز غاب، و دلائل حبيب فُقد\”[10]

تعتبر رواية (السقا مات) من أعمق ما كتب يوسف السباعي، من حيث معالجته لفلسفة الحياة و الموت ، و أيضا تعتبر تحفة تصويرية لمعالم القاهرة القديمة و مظاهر الحياة بكل ما بها من شخصيات و أماكن و مصطلحات و قد برع السباعي في وصف القاهرة في الكثير من أعماله. و تعتبر رواية السقا مات مواجهة مباشرة مع الموت و لكنها تختلف عن رواية نائب عزرائيل ، فبالرغم من أن الأخيرة أيضا مواجهة مع عزرائيل نفسه لكن الجو العام للرواية مرح يحمل الكثير من السخرية و الفكاهة.  لكن في السقا مات ينقل لنا السباعي صورة قاتمة للموت بكل ما فيه من ألم و فكر و عمق. السقا مات هي مواجهة مع وجه الموت الحقيقي، الذي نحسه في حياتنا الواقعية. فمهما كان اقتناعنا بحتمية الموت و قضاء الله و لكننا لا نستطيع استقبال الموت بمرح ، و أعني هنا موت آخرين ممن نحب. فالموت موت بكل مظاهره الكئيبة المترسبة في التراث البشري و خصوصا في الشعب المصري الذي يتميز بتقارب أفراده و تشابك حياة كل منهم في حياة الآخر مما جعل فقدان فرد واحد كأنه انفصال حلقة عن سلسلة متصلة.

وفي السقا مات نجد شخصيتين متناقضتين، فالأولى هي شخصية المعلم شوشة الدنك و هو يعمل سقا، شخصية متزنة مكافحة، يعمل من اجل الإنفاق على أبنه سيد و أم زوجته الراحلة. و ندرك أن المعلم شوشة يخشى الموت و سيرته و نفهم مؤخرا أن ذلك بسبب فقده لزوجته. أما الشخصية الثانية هي شحاتة أفندي المطيباتي و هو من يسير أمام نعش الميت إلى أن يثاويه التراب. و شحاتة أفندي رجل مستهتر، فقد خبر الدنيا و عرفها جيدا و ذاق منها ما جعله مدركا لحقائقها و خباياها. و تلتقيا الشخصيتان و يصيرا الرجلين صديقان و لكن دون أن يعرف شوشة حقيقة عمل شحاتة أفندي، و عندما يعلم يشعر بالنفور و الإشمقزاز منه و ربما أيضا الخوف. و لكن في حوار فلسفي رائع على لسان شحاتة يشرح لشوشة حقيقة الموت الغائبة عن البشر و التي واجهها هو و تغلب عليها. و في هذا الحوار يعطينا السباعي جرعة مركزة من فلسفته في الموت و حقيقة النفس البشرية. يبدأ شحاتة أفندي حواره شارحا لشوشة حقيقة أن ترك البشر للأرض هي حقيقة فيزيائية و طبيعية. فكل شيء في الكون يمر بمراحل عمرية مختلفة بدايتا من الميلاد ثم الشباب فالهرم الى ان يصل إلى الفناء\”إن وجه الأرض متغير ، و إن مركبات هذا الوجه من مختلف الكائنات محدود وجودها بفترة معينة، لها بداية و نهاية…و ابن آدم لا يزيد عن أن يكون أحد المركبات وجه الأرض[11]\” فلا بد لكل إنسان أن يمر بمراحل الحياة ثم في النهاية يفسح مكانا لكائن آخر ليأخذ مكانه و تستمر عجلة الحياة. و لكن كما قال شحاتة أفندي ان الإنسان يمتاز عن بقية مركبات وجه الأرض بالغرور, فهو يأبى أن يقارن نفسه بغيره من الكائنات التي توجد لفترة محدودة و التي تبدأ بالخلق و تنتهي بالفناء. و يعتبر الإنسان نفسه كائنا غير فان و غير قابل للانعدام و لذا فهو يفزع من أن تكون له نهاية. ثم يطرح شحاتة نظريته في حقيقة ((الروح)) مفترضا أن الإنسان عندما و جد نفسه مكرها على الفناء و الانعدام..و وجد أن جسده الملموس و الشيء الذي يدلل كيانه قد فني..أبى إلا أن يفترض بقاء الشيء غير الملموس و الذي لا يدري كنهه و لا يستطيع تحديده ألا و هو الروح. و في سبيل ذلك يحقر الجسد و يقلل من شأنه و يعظم من ذلك الشيء الذي يتوهم بقاءه و خلوده. و لكن يتساءل شحاتة أفندي:\”ما قيمة الروح في ذاتها بلا جسد ؟\” ، فعلى حد قوله فإن كيان الإنسان و تصرفاته و مشاعره و رغباته و ملذاته و آلامه ..منعكسة من الجسد. فمن الغباء أن يحاول جعل الروح شيئا مستقلا عن الجسد ، و من الغباء أن يتصور بقائها بعد فناء الجسد . فكما لا يستطيع أن يبقى بلا روح كذا لا يمكن ان يكون للروح وجود بلا جسد. فهذه الروح البقية ما قيمتها؟ و ما إحساسها و ما عملها؟ ان قدرة الروح في الأرض كامنة في الجسد و مسيرة لخدمته، فهي شيء تابع للجسد و لا قيمة لطاقتها إذا لم توجه لتحريك هذا الجسد. و كما يقول شحاتة \” لكن الإنسان مغرور يكره أن يقارن نفسه بالكلب أو بالمقعد أو بأي مخلوق من المخلوقات ذوات المدد المحددة في البقاء على وجه الأرض\”. و لذلك يكره الإنسان الموت و يأبى قبوله كنهاية محتمة و يأبى إلا إحاطته بأوهام كريهة ، و يرفض تعوده و ترويض نفسه عليه.

وهذه المرحلة العميقة من فهم حقائق نفس الإنسان قد وصل إليها شحاتة بعد العديد من الخبرات و المواجهات مع الموت. فقد كان يخشى الموت مثل شوشة ، وفي أول جنازة حضرها اخذ يبكي مع النائحين متأثرا حتى سخر منه زملائه. ولكن في الجنازة الثانية و الثالثة كان قد تغلب على ضعفه البشري أمام الموت وصارت الجنازة بالنسبة له كأنها نزهة. و بعد أن كان يخشى لمس الموتى أدرك أنها مسألة بسيطة جدا و لا يزيد شعورها عن شعور انك تحمل فخذة خروف أو أوزة مذبوحة

فكلاهما جسد ميت من لحم و عظم. و قد كان شحاتة ينزل إلى المقابر حتى دون ان تكون هناك فائدة من ذلك و كأنه كان يتحدى قدرته على الاحتمال و تحديه للموت و لكنه كما قال لشوشة:

لا تسألني عن الفائدة التي جنيتها من ذلك!!   لقد أصبحت رجلا شجاعا..بل أصبحت أشجع رجال العالم. لقد بت أحتقر الموت أحتقر أكثر منه …الإنسان\”[12]

ومن إدراكه لحقيقة الموت تتضح له حقيقة الإنسان نفسه، فكما قال لشوشة ان الإنسان حقير إلى أقصى حدود الحقارة ..و العجب!!. فالإنسان حقير ومغرور، وغروره يعمي عينيه عن حقارته. ثم يسرد شحاتة لشوشة مثل لحقارة الإنسان ، عندما رأى ذلك الرجل ذو الشأن العظيم البهي في موكبه المهول بكل ما فيه من حرس و سيارات مزينة. عندها شعر شحاتة بضئالته أمام هذا المخلوق المهوب الذي يستبعد أن يكون بشرا عاديا مثل شحاتة و كانت هذه أول مرة يراه. و بعد عدة شهور سمع أن الرجل العظيم قد مات و رأى موكب جنازته بما فيه من فرسان و حملة سيوف و مدافع و رجال عظماء في الدولة. ثم رآه في المرة الثالثة، فقد تصادف موت قريب له و دفن في نفس مقبرة العظيم فنزل شحاتة المقبرة و هنا رآه ..بلا فخامة و لا أبهة ، ملقى كالقربة أو كالخروف المذبوح الذي نفخه الجزار إعدادا لسلخه ..بلا حراس و لا جنود، ولا موسيقى و لا موكب إلا موكب الدود..دود عادي لا يلبس التشريفة و لا يمسك رمحا و لا سيوف\” دود بسيط كالذي يحف بجثتك وجثتي وجثة كلب\” . و لم يتمالك شحاتة نفسه من الابتسام ساخرا فليس هناك أحقر من الإنسان و لا أشد غرورا منه.

فليس في الإنسان ما يستحق أن ترهبه من أجله، لا منصب و لا مظهر..ولا بتلك الألقاب الزائفة أو الثياب الغالية، فمهما ضخم و عظم هذا الإنسان فإنه لا يتعدى جيفة نتنة. و يستمر حديث شحاتة أفندي: \”كل ما عليك أن تعطيه موعدا أقصاه بعد أعوام..لتلقاه في مقبرة وأنظر كيف يبدو..اسأله عن ألقابه و عن ثيابه و عن حراسه و عن أمواله و عن سلطانه و عن جبروته و عن قوته ثم أنظر بماذا يجيبك..فإذا أجابك بأكثر مما يجيبك ذلك الكلب..فابصق على وجهه..و على وجهي\”. ثم يضع شحاتة أفندي نهاية لفلسفته في الموت محتقرا هذا الإنسان المغرور الذي يأبى ان يسلم بكونه مخلوق حقير بل و أحقر المخلوقات و أغفلها.

\”ليس هناك أكثر غفلة من البشر و لا أغفل. أهناك أشد غفلة من مخلوق يغفل عن نهايته؟

أهناك أكثر غفلة من مخلوق يوقن من نهايته و لا يعتبر بها؟

هذا هو الموت يا صاحبي و هؤلاء هم البشر.

نهاية طبيعية …لمخلوقات غير طبيعية…\”[13]

وكأن الموت أدرك أن شحاتة أفندي قد فهم حقيقته و هو لا يحب من لا يخافه ، فالموت يستمد هيبته من مجهوليته و غموضه و من الصعب على الموت تقبل فكرة كون بشري فان قد فهم حقيقته و ما عاد يرهبه بل صار يسخر منه و من اللذين يخشونه. و لذلك قرر الموت القضاء علي ذلك العنصر الخطير الذي تتمثل خطورته في قدرته على إقناع آخرين بفلسفته إلى ان يفقد الموت كل ما يحيط به من غموض و رهبه و خوف و يرى كل البشر حقيقة الموت فيصيروا غير خائفين و غير مكترثين بالموت ،فتصير الحياة بلا مقوّم يتحكم في تصرفات البشر الذين هم جبناء بطبعهم فتصبح الحياة كأنها مسرحية فكاهية ساخرة و يفقد البشر ذلك السيف الذي كان موجه لأعناقهم و الذي كان يضمن خضوعهم و عدم تمردهم على القوى العليا المطلقة. لذلك فقد أنقض الموت على ذلك المتمرد الخطير شحاتة أفندي و أخذه في أوج اللحظات التي كان يستعد فيها شحاتة الاستمتاع بكل ما في الحياة من متع معلنا التمرد على كل مل هو روحاني فقد قرر شحاتة قضاء ليلة حمراء مع المومس الشهيرة عزيزة نوفل و قد أعد كل عدته لهذه الليلة فقد أحضر من الطعام كل ما له الشأن في زيادة قدرته الجنسية في هذه الليلة و أيضا لا ضرر من بعض المخدرات. و لكن الموت كان له بالمرصاد فلم يمهله حتى بلحظة واحدة من كل هذه المتع الدنيوية و قبض روحه في إغفاءته استعدادا لهذه الليلة الموعودة.

ولكن الصدمة الحقيقية كانت للمعلم شوشة المسكين، فهو ما تخيل قد موت من مثل شحاتة أفندي الذين يخشى الموت الاقتراب منهم ، فإنهم على حد إدراكه (أبناء كار واحد). و جلس شوشة مع نفسه بعد جنازة شحاتة مفكرا في كل ما قاله له قبل أن يموت . و كان في جلسته كأن الموت قد تجسد أمامه فما لبث ان كان يكلمه بل و يتحداه و يواجهه بكل ألاعيبه الدنيئة.

\”الموت..الموت..الموت. ماله يعبث بنا كل هذا العبث؟ ماله لا ينقض فيريحنا من عناء الانتظار !!ماله يتركنا حيارى ضالين نحس به و لا نراه ،نوقن من وجوده ..و لا نوقن حدوثه !!ماله يبدو كالشبح أو الوهم ..وهو حقيقة واقعة !!ماله يقبل متخفيا مستترا فلا نراه إلا و قد أطبق علينا ،و هو أبعد ما نتوقع\”. و يصل شوشة إلى مرحلة متقدمة في حواره مع الموت المتجسد أمامه و الذي يشعر به في كل أرجاء الدار. هذا الموت الجبان ، لا يأخذ إلا على غرة ،فهو يبدو بعيدا نائيا و لكنه كامن وراء تلك السكين أو هذه العصا أو أسفل هذه النافذة ، أو في تلك اللقمة.

\”تعال أيها الموت و أرحنا من سخافات الحياة ..أنت نومة لا أكثر و لا أقل ..أنت لا شيء ..سوى فاصل بين إحساس و لاإحساس…أقبل علينا يا موت فأنت منجينا حتى من خوفنا منك …فمن بعدك السلامة منك و من وهمك ،و من خشية انتظارك ..أقبل فليس مثلك شفاء للنفس الواعية المدركة بحقيقة الخليقة العارفة بزيف قيمتها و تفاهة حصيلتها\”[14].

أجل، ان من يدرك حقيقة الحياة و كم هي زائفة زائلة ، و كم هي حقيرة ساخرة ،فيصير الموت بالنسبة له خلاص من هذه الدنيا. فهو ما عاد يخشى الموت بل صار يريده، ففي بعض الأحيان يصير الموت صدر حنون يحمينا من قسوة الحياة و سخرية القدر الذي لا يرحم. و لكن الموت يأبى لأنه دائما يحب أن يأتي بلا دعوة و يقبل من حيث لا نطلب ..ويعرض عند الحاجة إليه.

و قرر شوشة توصيل شحاتة حتى مقبرته، بل و انه ارتدى ملابس المطيباتية التي كانت لشحاتة و سار أمام النعش إلى المقبرة. ثم قرر أن يتحدى الموت و ينزل إلى المقبرة و لكنه مازال على خوفه من الموت و رائحته. و لكنه بدأ يسأل نفسه \”ما هذه الرهبة التي أحاطت بها بقايانا من عظام رميم،إنها مخلفات جامدة ..إنها أنقاض لم تعد لنا صلة بها..إنها مواد فانية متحللة..لا فارق بينها و بين أنقاض الدور و بقايا الأثاثات القديمة ..كلها صائر إلى رماد..فعلام إذن الرهبة و لم الخشية؟\”

و هبط شوشة بالجثة إلى باطن الأرض و هو في نضاله العجيب محاولا قهر أوهام الموت ..و حتى انتهى من أخر درج،و بدأ يتحرك في الداخل استقبلته المقبرة بظلمة جاثمة و برودة ثقيلة و رائحة عفنة. و لم يكد يسير خطواته الأولى داخل القبر حتى صدمت قدمه شيئا صلبا، و نتج من الصدام قرعة أشبه بقرع الطبل و أخذ الشيء المصدوم يتدحرج على الأرض ، فلم يعد هناك شك أن الشيء المصدوم جمجمة ميت. و كانت قرعة شوشة للجمجمة هي دقة الهزيمة..لقد انهار الرجل تماما..و جثا بالميت على الأرض ..و دفن رأسه بين كفيه و اندفع في نحيب حاد.

\”لا..لا..ليست هذه العظام أنقاضا كأنقاض المدن، إنها قد تكون كذلك..لو لم يكن في صدورنا فؤاد يخفق و قلب يدق و ينبض..أما و هذه تكمن في حنايانا..فما أعز البقايا و ما أكرم الأنقاض..إنها أثار عزيز غاب، و دلائل حبيب فُقد\”

\”أيخفق القلب لشيء غير ملموس؟..لرائحة سارية؟..أو ذكرى عبرة..؟و لا يخفق لبقايا ملموسة ضمها الثرى،و أثر محسوس حوته الأرض\”

لم يتحمل شوشة كون هذا الجسد الميت مجرد لحم ميت قيمته لا تزيد عن فخذ خروف أو إوزة مذبوحة، و لكن هذا الجسد هو ما تبقى من كيان حبيب كان له وجود بيننا و أن طالما هناك قلب يخفق بين ضلوع الإنسان ، ستظل هذه البقايا هي أشياء مقدسة يحج إليها المحب الملكوم وقت اشتداد الحنين. طالما ذلك القلب موجود ستظل بقايا الأحباء أغلى الأشياء.

\”قاتل الله ذلك الساكن في الضلوع، لقد خذله شر خذلان و كان السبب في كل ما حاق به من هزيمة و ما أصابه من انهيار\” [15]

ويشاء القدر أن يعمل شوشة في نفس مهنة شحاتة مرتديا نفس الملابس الكئيبة، و يندمج شوشة في عالم الأموات و الجنازات، و لا يأبى بكلام الناس أو لوم سيد ابنه. و يتضح أن شوشة كان يخاف الموت لأنه يذكره بزوجته الحبيبة الراحلة التي حتى الآن ما زال لا يتخيل رحيلها حتى أقتحم عالم الموتى فوجد فيه تعزيته و سلوانه لفقد زوجته و كان في كل ميت يشيعه يشعر أنه يقترب منها أكثر حتى بات لا يخشى الموت بل ينتظره و يقول شوشة محدثا سيد و مدافعا عن نفسه \” بهذا أحسست بالسكينة و الاستقرار ، لولا ذلك القلب الذي لا يتحمل صبرا و لا يقبل منطقا\”

\”كنت أشيعها في كل جنازة أسير أمامها ..و كنت أراها في كل ميت أواريه الثرى ،اني أحس بمتعة من تشييع الجنازات ..فهي تقربني إليها و تمتعني برفقتها و ذكراها و تهون على نفسي مسألة الموت و تعدني لاستقباله غير وجل و لا هياب ..و عندما تهون على الإنسان النهاية ..تهون الحياة\”

و قد كانت هذه الكلمات هي الكلمات المعزية لسيد عندما مات أبوه . وهنا يدرك الطفل الصغير معنى الموت و فلسفته . و لكنه يتعجب من الحقيقة ، حقيقة أن أي شيء على هذه الأرض أبقى من الإنسان نفسه الذي طالما اختال عليها فخرا و مشي على ظهرها مرحا منتفخ الأوداج مغرور ، و كم تثنت عليها الغيد و تمايلت الحور ..فأين ذهب المختال و راح المغرور ..و أين صارت الغيد و آلت الحور. فكل جامد على الأرض أبقى من الحي، حتى قبوره و مخلفاته إلى الزوال مصيرها.

\”ما أوهى خيط الحياة …و أضعف مادة الأحياء\”

………

نادية (1960): صرخة.. أنين.. موت:

 

\”و فجأة.. انطلق الصراخ..مرة أخرى..بدأ هذه المرة ..بصرخة حادة..من أعماق جريحة ..و انتفضت نادية من أحلامها جالسة في الفراش و هي تحس بقشعريرة تهزها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها\”[16]

استطاع أيضا يوسف السباعي التعبير عن مظاهر الموت بكل صورة و ما يصحبه من ردود أفعال و إجراءات. و هذه المظاهر تختلف من طبقة اجتماعية لأخرى. ففي رواية نادية يصور السباعي موقف الموت في موضعين وهما موت الأب و الثاني هو موت الأخت. و هنا يظهر أيضا التأثر الشخصي في يوسف السباعي من هذا الموقف، فقد ظهرا الموقفين قمة في الكآبة و الواقعية بحيث يستحقا الدراسة التفصيلية.

نادية و منى أختان توأم من أسرة متوسطة فأبوهم مدرس بالجامعة و أمهم من أصل أجنبي. تتعلق نادية بالدكتور مدحت لكنه لا يعرف بحبها. عندما يموت الأب تضطر الأسرة للسفر إلى بلدة الأم و العيش هناك. و ما نريد تحليله هو موقفا الموت في القصة و كيف كان رد فعلهما على الشخصية المحورية نادية و على باقي الشخصيات. ففي موت الأب الذي كان مريضا و الكل يتوقع موته لكنهم لا يتقبلون الفكرة. و نرى نادية و قد تحفزت لكل ما هو علامة عن الموت و كأنها كانت ترى الموت يحوم في المنزل مترقبا اللحظة المناسبة للانقضاض على الضحية المسكينة المريضة و هي الأب الذي لا يقوى على مواجهة شبح الموت الحائم حول فراشه. و هذا الإحساس متوارث من التراث البشري .فقد كان في قديم الزمان يعتقد أن الموت يأتي و يقف على رأس فراش المريض منتظرا قنص روحه، فما كان من الذين يحيطون به إلا أن صاروا يديرون الفراش و يلفونه اعتقادا منهم أن ذلك سيعيق شبح الموت عن الوصول الى الضحية قنصا لروحها. وكانت نادية تعاني من نفس الإحساس، شاعرة بوجود شبح الموت الحائم حول فراش أبيها. و زاد إحساسها و تحفزها انطلاق صرخة مدوية و لكنا أدركت لاحقا أن لم يحدث شيء، و لكن هذا جعلها متحفزة أكثر و كأن شبح الموت قد صار قاب قوسين أو أدنى من والدها.

\”كانت الدهشة تجثم على الدار، و إحساس بالخوف يرسب في أعماق نادية..كانت ترتجف لكل صوت .. و تجزع من كل حركة .. و كانت تتوقع ان يعود الصراخ الحاد ليشق أجواء الفضاء مرة أخرى، و كما تجسد العين أشباحا مذعورة ..كانت أذنا نادية تجسدان لها الصراخ في كل صوت، بل وفي السكون ..كانت تنتفض بين آونة و أخرى ..من الأصوات الموهومة التي تنطلق من داخل البيت\”.[17]

إن كل من مر بتجربة موت أحد أقربائه في البيت يعرف إحساس نادية في تلك اللحظة. فهي لحظة من أكثر لحظات العمر خوفا، إنها أكثر خوفا من لحظة موتك نفسك. شعور إن شبح الموت حاضر بكيانه بيننا و إرهافنا لكل همسة قد تحمل النهاية ما بين صرخة و أنين. و فجأة أنطلق الصراخ مرة أخرى. بدأ هذه المرة بصرخة حادة من أعماق جريحة ،فانتفضت نادية من أحلامها و أوهامها و هي تشعر بالقشعريرة تنتابها و تهزها. و بدت لها الصرخة في أول الأمر بقايا حلم أو أثرا من آثار الوهم و لكن الصرخة تلتها أخرى و قد استطاعت نادية أن تميز فيها صوت أمها و ذلك النحيب يشق صدرها. و هنا تظهر بعض المظاهر الجديدة القادرة على الانطباع في ذاكرة الإنسان إلى الأبد ، فقد انطلقت صرخات أخرى حادة متوالية و بدا البيت في حركة مجنونة صاخبة و الكل يتحرك صائحا بلا هدف و لا قصد، وبدا كل إنسان في البيت لا يستطيع ما يجب أن يفعله. و هنا تبدأ نادية في سماع الكلمات التي ستظل تتردد في ذاكرتها إلى الأبد مثل \”يا جماعة.. أخرجوا البنت..حرام\” و تسمع أيضا و هي بين الوعي و اللاوعي محادثة تلفونية:\” بمزيد من الأسف ننعى فقيد العلم الأستاذ محمد فاضل أستاذ اللغة الفرنسية بالجامعة و والد نادية و منى فاضل باليسيه و …\”. و لم تسمع نادية بقية الحديث فقد أطبقت بأسنانها على الوسادة تمزقها، و هي تحس أن أباها أضحى مجرد نعي.

إن مظاهر الموت واحدة في كل شعوب العالم، و في الشعب المصري تجد تلك المظاهر و قد رسمت بخطوط واضحة في ذاكرة كل من مر بها، و ستجد هذه الذكرى راسبة في أعماق كل إنسان في مصر بما يحيط بها من صراخ وأنين في لحظة الموت و أيضا الأحاديث و الجلسات التي تعقب الموت وفي فترة الجنازة. فتجد هذه الجلسات و قد خيم عليها أيضا شبح الموت وكأن صدمة موت إنسان قد جعلت الإنسان يفيق من غفلته عن الموت ويبدأ في التفكير في حقيقة الحياة و يتعمق في فهم مغزاها بعد ان كان يعيشها بدون أدرك متعايشا مع صطحيات الحياة القادرة على شغله عن التفكير في الحقائق الحياتية الغائبة عن الوعي البشري.

وتأوي نادية إلى فراشها بعد يوم الجنازة الحافل بالمظاهر المؤثرة المتغلغلة في الأعماق البشرية

\”وآوت نادية إلى حجرتها و صرخات الليل الحادة ما زالت تدوي في أذنيها..و أحاديث اليوم تتكأكأ مختلطة متشابكة في مخيلتها. و كلها صور بغيضة مقيتة مروعة. الرجال ذوو العمائم الذين أقبلوا يتهامسون و يتفاوضون..و النعش المستطيل الأجرد..و الكبش الذبيح أمام الباب، , أمها الصارخة في ارتياع كأنها كلب يعوي، و عمتها المنهنهة المثرثرة. و عمها السائر في انهيار المتحرك كالشبح..و العربة السوداء تتحرك بالنعش[18] \”

كل هذه المظاهر المحيطة بالموت قد ترسبت في أعماق يوسف السباعي فكان و هو يكتبها كأنها شريط يمر أمام عينيه واصفا على صفحات الرواية كل ما بها من عناصر مؤثرة في نفس من مر بمثل هذا الموقف. فتصوير السباعي لمثل هذه الأحاسيس كأنه يرسم لوحة متقنة من عالم الواقع و قد كان إبداع السباعي في إظهار كل هذه المظاهر. و يصل بنا إلي مرحلة الدفن و التي تمثل قمة تصاعد الإحساس و الإرهاف و كأن المشاعر البشرية قد قدت على قمة بركان منتظر الانفجار في أي لحظة. و يسير بنا في طريق المقابر و نرى كل ما يحيط بنادية من عناصر مكونة لهذا الانطباع الرهيب الذي لا ينمحي مدى حياتها. فنرى النعش المحمول على الأعناق و صراخ أمها المنطلق من داخل العربة ..و عربات تنطلق و تثير ورائها سحابة من الغبار في طرق المقابر. الوقفة الأخيرة أمام القبر و تري تنويعة من الانطباعات..فم فاغر..أعصاب مشدودة ..أحاسيس أرهفت كحد السيف..نعش يهبط من العربة و الأم تندفع وراءه صارخة.. العم يشدها بعيدا.. رجال يغدون و يروحون ..صبية يتزاحمون و يتصايحون ..قرب ترش المياه على الأرض..آيات تتلى..النعش يخرج خاليا ..الأصوات تهدأ ..أيادي تشد على بعضها.. ناس يحتشدون في العربات..القافلة تعود..في سحابة من الغبار…و ينتهي الأمر.

إنها صورة حية ينقلها لنا السباعي من واقع معايشته لموقف مماثل ترسب في أعماقه منذ الطفولة و صار يداعب أحلامه طويلا. انه الموت و كيف نستقبله و قد قدم السباعي الصورة المصرية الصميمة بكل ما فيها من تراث إنساني لمفهوم الموت.

وفي الموقف الثاني الذي واجهت فيه نادية الموت كان موت أختها منى و كان ذلك في فرنسا حيث أختلف الجو العام قلبا و قالبا. و تستعيد نادية ذكراها الأولي مع الموت فقد كان الموقف مماثلا للسابق. فالأخت مريضة يحيط بها لفيف من الأطباء و الأقارب الفرنسيين. و تنطلق مرة أخرى صرخة الأم معلنة موت إنسان عزيز. و تشعر نادية بوجود شبح الموت الحائم في البيت مرة أخري. و لكن في هذه المرة كان استقبال الموت صامتا. فقد تفرق الجمع الحاشد في سكون و صمت،بلا صراخ يشق أجواز الفضاء و لا نحيب يدوي في أنحائه، و كأن حدثا لم يقع. و أحست نادية بخوف شديد يسري في أعماقها ، لقد كانت تخشى الضجيج الذي صاحب موت أبيها.. فإذا بها ترتجف من الصمت الذي حف برحيل أختها.

 \” لماذا لا يصرخون؟؟..لماذا لا يولولون و يضجون؟؟إن في ضجة الصراخ..أنسا من وحشة الموت ..و تمويها لصمته المخيف\”

……….       

نحن لا نزرع الشوك (1968): وجهان للموت:

\”ولكن أذاك هو الوجه الأوحد للموت..؟..زفرة محتبسة..لمخلوق استرخى و استكان و أغمض عينيه..و نفض يده من كل ما حوله.أبدا يا سيدة إن هذا هو الوجه المشرق للموتالوجه المريحالمنقذ..المخلص..لصاحبهأما الوجه الآخر ..فوجه أغبر قاتم..تعبر عنه هذه العاصفة من الصرخات التي تصم الأذن..تعبر عنه الخدود الملطومة..و الثياب الممزقة..و الآهات المكتومة\”

\”وجه يظل صاحبه بنعمة الراحة و الخلاص..و الآخر يلسع ذويه بنقمة الضياع و الحرمان\”[19] 

نحن لا نزرع الشوك تعتبر من أشهر الروايات ليوسف السباعي و قد تحولت للعديد من الأعمال الفنية. و هي تعالج العديد من القضايا الاجتماعية مثل الفروق الطبقية و زواج المصلحة. و في هذه الرواية قدم يوسف السباعي جرعة كبيرة من فلسفته في الموت و ذلك من خلال تقديمه للشخصية المحورية في القصة و هي ((سيدة )) التي تشاء أقدارها أن تعيش في عذاب دائم منذ طفولتها و حتى مماتها. و ما مدى الذل و القهر الذي رأته في حياتها منذ كانت تعيش مع زوجة أبيها بعد موت أبيها و مرورا بعملها كخادمة ثم عاهرة و عذابها في زواجها و حتى موتها.و تواجه سيدة الموت في العديد من مراحل عمرها، أبرزها عند موت أبيها عندما كانت طفلة، و المرة الثانية عند موت ((سي محمد)) والد حبيبها ((سي حمدي))، و أيضا عند موت ولدها ، و عند موتها شخصيا . و سوف نتناول بعض تلك المواقف و نستخلص منها فلسفه السباعي عن ذلك الكائن الذي أرقه مدى حياته.

كانت سيدة طفلة صغيرة عندما مات أبوها، و يعرض لنا السباعي في براعة مشاعر الطفل الصغير إزاء ذلك المجهول و تلك الحقيقة الرهيبة و هي خروج بعض الأشخاص من حياتهم بلا رجعة و بلا سبب و بلا مقدمات. فهم لا يقولون إلى أين يذهبون و لا نستطيع الذهاب معهم و لا يعرف أحد مطلقا أين ذهبوا.   

\”مات أبوك يا سيدة ..مات يعني إيه؟؟..يعني ذهبإلى أين يا سيدة؟؟لو أنها تعرف إلى أين يذهب الموتى..لهان الأمر..لذهبت معه..أو على الأقل لتركته يذهب..ثم تذهب إليه عندما تريد..و لكن الذين يموتون..لا يعودون..و لا يصطحبون أحدا..و لا يعرف أحد أين هم ..ليذهب إليهم عندما يريد..مسألة..سخيفة جدا….\”[20]

و نسمع من سيدة الطفلة ما أعتقد أنه دار في عقل يوسف الطفل عندما مر بنفس الموقف. فعندما أخبروها أن أبوها قد مات تعجبت كثيرا و هي لا تعرف تفسيرا لكنة الموت فعلى حد معرفتها أن الذين يموتون لا يعودون، يذهبون في ضجيج و يخلفون خلفهم الفراغ و الصمت، و يذكرهم الناس بعض الوقت و يطلبون لهم الرحمة، ثم تضيع ذكراهم في زحام الحياة و تصبح أتفه مشاغل العيش ..أشغل للناس من أعز ذكريات الموتى. أن الموت لشيء سخيف بالنسبة لطفلة صغيرة مثل سيدة ، فه لا تقتنع بأن يذهب عنك إنسان يكاد يكون جزءا منك أو تكاد تكون جزءا منه ..إلى حيث لا تدرى و لا تعرف كيف تلقاه و يصبح عليك أن تسلم بعدم وجوده وأن تعيش بدونه كأنه لم يكن يوما.

عندما تسمع انهم سيأخذون أبوها تسأل نفسها لماذا لا يأخذونها معه؟، و أجابت على نفسها انهم لن يرضوا لأنها لم تمت، و لماذا لا تموت؟؟..من أين لها تعرف..لماذا مات أبوها. و لماذا لم تمت هي و لماذا لم تمت دلال زوجة أبيها.

\”لماذا يموت البعض.. ولا يموت البعض الآخر؟\”

لا إجابة.

ثم جاء اللقاء الثاني مع الموت، و قد كان من أبشع المواقف التي يمكن تصورها. فكما قلنا من قبل أن السباعي كان يصور أبيه محمد السباعي في شخصية محمد السمدوني بكل ما فيها من قوة و عنفوان و تحدي للحياة و السخرية منها، فقد كان سي محمد في الرواية رمز للحياة بكل مظاهرها و قوتها. فقد كان يغني و يرقص عاريا معلنا تمرده على كل ما يمكنه كبح جماح الإنسان. فقد كان سي محمد صورة للإنسان الذي قد تظن أن لا للموت سلطان عليه و أنه سيد هذه الحياة. و لكن يعود الموت لما عودنا عليه و الذي حتى الآن لا نتقبله و هو سخريته من الإنسان. و يأتي الموت كأنه يتباهى و يختال بقوته و جبروته مثبتا للبشر مدى ضعفهم و عجزهم مهما تمتعوا بروح التحدي و القتال في سبيل الحياة و عدم جدوى التمسك بتلابيبها و هم لا يملكون زمام أمرها بل هم مخلوقات ضعيفة فانية.

و تفتح واقعة الموت عيني سيدة على حقيقة الموت التي لم تفهمها عندما كانت صغيرة ، فأدركت أن الموت ليس فظيعا كاسمه ، على الأقل بالنسبة لمن يلاقيه فعلا..بقسماته الهادئة ووجهه الشاحب الساكن. فقد رأت سي محمد عندما مات، فقد أخذ شهقتين.. و أطلق زفرتين..تماما كما نفعل في كل وقت..و في الثالثة أخذ الشهيق كما نأخذه..و لكن لم يطقه.

\”الفارق الوحيد بين ما نفعله.. وما فعله الميت..هو أنه لم يطلق الزفرة..بعد أن عبها في صدره شهقا. بينك و بين الموت يا سيدة ..زفرة ..واحدة..إن اطلقتها حييت..وإن حبستها في صدرك صرت في عداد الموتى…عجبا يا سيدة..ما خطر ببالك من قبل أن حياتك مجرد زفرة\”[21]    

تتعجب سيدة من هذه الحقيقة، فما أوهى الخيط الفاصل بين الحياة و الموت. ففي لحظة يكون الإنسان مفعم بالحياة و في اللحظة التالية أصبح كأنه لا شيء ، كأنه لم يكن. فما يفصل بين الحياة و الموت زفرة أو لحظة او غمضة عين، و شتان بين ما قبلها و ما بعدها. ففي لحظة يفقد الإنسان وجوده و كينونته، إحساسه و مشاعره ، عقله و فكره ، فلسفته و قيمته، فيصبح مجرد قطعة لحم لا تفيد و لا تضر. و في لحظة، في زفرة ، يصبح المخلوق الذي تعلقت حياتنا به مجرد جسد مثواه التراب.

و هنا تدرك سيدة حقيقة الموت، و ترى منه ما قد خفي عليها. فرأت الوجه الآخر للموت. فهي ترى في وجه الميت من سكينه و هدوء و وداعة وجها مشرقا للموت، و إذا بها تري الوجه الآخر للموت . وجه الموت البشع الأغبر القاتم متمثلا في عاصفة من الصرخات و خدود ملطومة و ثياب مشقوقة و لآهات مكتومة. \” و لشدة ما يتناقض وجها الموت يا سيدة\”. فالميت قد ابتلع زفرته و استراح و أغمض عينيه و أصم أذنيه عن كل شيء ..حتى عذاب الذين يبكون رحيله و يتوجعون لفراقه.\” عجيب هذا الموت يا سيدة..لا تستطيعين أن تسميه حتى فراقا\” . نعم، ففي الفراق يتألم الطرفان و يستويا في آلامهما، أما الموت ففراق..يمضي فيه أحد الأطراف في سكون و ارتياح بينما يتمزق قلب الآخرين من لوعة الفراق و وجيعته.

\”طرف يمضي..دون أن يشعر أن هناك من يودعه..و آخر يتمنى لو فقد الحياة قبل أن يودعه\”

\”وجيعة الموت يا سيدة ..ليست لصاحبه…و لكن الوجيعة لمن يحبونه\”

ولم تستطع سيدة إخبار حمدي بموت والده و بدا لها الوجه البشع للموت ذي المخالب تنزع القلوب من الصدور و كرهت أن يواجهه حمدي بكل ما فيه من مرارة و ألم. و في غمرة الصرخات و الآهات و شتات الأسرة المنكوبة الممزقة تري سيدة الموت في أبشع صوره و أكثرها سخرية من البشر.

\”هذا هو الوجه الكريه البشع.. للموت يا سيدة.\”

و في لقاءها الأخير مع الموت، كان موتها هي نفسها. و قد أختلف موقفها تماما مع الموت، فمن قبل كانت تتحدى الموت عندما يقترب ممن تحب. و لكن عندما أقترب منها كان قد أنهكها التحدي و المقاومة .و تشعر سيدة بالنهاية مقتربة فترحب بها ملتمسة في الموت خلاصها من عذاب الدنيا ، بعد أن رأت موت من تحب و منهم ولدها هان عليها موتها و وجدت فيه الراحة الأبدية من عالم لم تذق فيه لا راحة و لا سعادة. فقد أعلنت سيدة استسلامها للموت .فقد قاومته من قبل و لم تجد معه المقاومة.

\” مللت معاركك معه..فليقبل…لم يبق لديك حاجة في الحياة لم تقضها..و ما عاد بك من الحاجة إلى المزيد بل قد يكون خلاصك منها ..مزيد من قضاء حاجتك\”

و في لحظة النهاية تدرك سيدة ان أجلها حان فتتمنى ان يمر بدون ألم إلى أن تنطلق إلى عالم الحرية المتمثل في فناء الجسد و انطلاق الروح.

\” و فجأة ..راح الألم ..و لم تعد سيدة تحس بشيء …ملكت حريتك ،أخيرا يا سيدة ..و لم تعودي بعد عبدة حاجتك و لا مشاعرك ولا أحزانك ولا آلامك..انطلقت متحررة من كل متاعب الحياة ..و مواجعها\”[22]

……….

العمر لحظة (1973): عندما يصبح العمر بلا ثمن:

ويهون العمر إلا لحظة.. وتهون الأرض إلا موضعا

\”عندما نرى الموت حولنا ..لا نجري منه..بل نثبت بغير إرادة لنرده إلى من أوقعه بنا ..و الذين يموتون منا..لا أظنهم احتاجوا إلى الشجاعة و هم يواجهون الموت…هنا لا يمنحنا حتى فرصة الخوف منه[23]\”

العمر لحظة هي آخر ما كتب يوسف السباعي و كأنه يختصر كل حياته و كل ما كتب و كل فكره و فلسفت في لحظة. و الرواية تحمل الكثير من الفكر السياسي و التاريخي. فالرواية تقع أحداثها في الفترة المعروفة بحرب الاستنزاف. و في هذه الرواية تنبأ السباعي ببعض مما و قع في حرب أكتوبر 1973 . و قد استطاع أن يرى عن طريق هذه الرواية بصيص النور في وقت لم ير فيه غيره سوى حلكة الهزيمة. و استطاع أن يكشف عن النار التي لا تزال تومض رغم ما تكاثف فوقها من رماد. لقد سبح يوسف السباعي في هذه الرواية ضد التيار السائد وقتئذ و أعلن ان روح القتال لدى الشعب المصري لم تمت و أنها لا تتوارى إلا لتتحفز و تنتقم.

إنها الحرب، حيث تصبح الحياة لا قيمة لها، و تصبح الروح بلا ثمن مقرنة بالقيمة العامة و المعنى الأسمى و هو الموت في سبيل الوطن و سبيل الآخرين. عندها يصبح الموت نفسه كالصديق الحميم أو القريب. و في هذه الحرب يلتقي قلبين كل منهما هاربا من الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من زيف و نفاق، و متجها إلى عالم الحرب، ذلك العالم الخالي من الكذب و التجمل و النفاق. فهو عالم الحرب حيث يحمل كل الإنسان روحه على كفة ، غير عابئ بنهايته رغم إدراكه أنها قاب قوسين أو أدنى منه. في ذلك العالم لا تجد أي نوع من أنواع النفاق. فأنت لست بحاجة إلى المادة حيث انك لا تضمن هل ستتمتع بها أم لا. و أنت لست بحاجة للمظهر و المنظرة الكاذبة حيث أنك تدرك أن مهما علي مركزك و حسن مظهرك فإن هذا لا يمنع الرصاصة من اختراق قلبك غير عابئة بالمظهر الخارجي.

فيقول الجندي عبد العزيز:

\”نحن لا نحتاج إلى شجاعة ..لكي نحيا حياتنا..نحن لا نرى الموت إلا في أشلاء أحبائنا..عند ذلك لا يثير في نفوسنا الخوف بقدر ما يثير الحنق و الحقد و الرغبة في الثأر..\”[24]

فها هو الجندي يرى الموت في أشلاء جندي صديق فلا يجعله ذلك جبانا أو خائفا من الموت بل يدفعه للتحالف مع الموت نفسه من أجل الانتقام.

إن مشاعر الجندي في الميدان لمشاعر مرهفة لدرجة كبيرة، ففي أغلب الأحيان التي يموت فيها الإنسان يكون الموت هو أبعد شيء عن خياله. فالذي يموت في حادثة أو ما إلى ذلك لم يكن يتوقع الموت أبدا. و في الأحيان الأخرى يكون الإنسان مجبر على الموت أو ليس لديه حيلة قباله مثل أن يكون الإنسان مريضا و يعرف أنه سيموت قريبا و لا يملك ما يفعله حيال ذلك.

ولكن في حالة ميدان القتال تجد انها من الحالات النادرة التي يكون فيها الإنسان مقبلا على الموت و هو ليس في حالة انتحار، بل لأنه محمل بمبادئ سامية تجعله لا يهاب الموت. و عندما يكون الموت قريب يجبر الإنسان على التفكير العميق لمغزى الحياة، فترى بين هؤلاء الجنود فلاسفة  متأملين في الحياة و الموت و ليسوا مجرد أدوات للقتال. ما أصعب أن يدرك الإنسان أن نهايته قريبة، ولكن الأصعب من ذلك هو عدم اكتراثه بهذه النهاية.

إن الموت قد يأتي بلا مقدمات ،أو يأتي محاطا بالكثير من الظاهر و الترقبات و التوقعات و لكن في جميع الأحيان الموت هو الموت. فإذا أعدت التفكير في حقيقة الموت و الحياة بكل ما فيها تجد أن لا يوجد في هذه الحياة بما يسمى بالـ ((المطلق)). فلا يوجد شيء مطلق في هذه الحياة سوى الموت. عندما تفكر قليلا في حقيقة الحياة تجد ان كل شيء نسبي، المشاعر البشرية أمر نسبي قد يختلف من مكان و من زمن لآخر، السياسة و الحكم ، الخير و الشر، الحب و الكره. كل ما في هذه الدنيا قد يختلف عليه اثنان إلا حقيقة الموت، فإمام الموت تخضع كل الرؤوس معلنة عجزها. فالموت هو الأمر الوحيد في هذه الحياة الأكيد، و كل شيء عداه يقع تحت طائلة الشك و المفاوضات. لكن الموت هو القادر الأوحد على إثبات أنه الحقيقة المطلقة الغير قابلة للمجادلة و المفاوضة. و في ميدان القتال يصير الموت هو الحقيقة الواحدة الباقية الأبدية و يصير العمر مجرد لحظة مقارنتا بالموت و تصير الروح بلا ثمن مقارنتا بالحقيقة المطلقة.

\”هنا لا نفكر في أرواحنا، إن عمرنا هنا لحظة، نكسبه فيها ، أو نخسره\”

………..

القناع الأخير  (1978): وأخيرا سقط القناع الأخير.. وظهر ما وراءه:

هذا ليس اسم إحدى أعمال الكاتب الراحل يوسف السباعي، وإنما هو موقف آخر ألتقى فيه يوسف السباعي بالموت، ولكن هذه المرة تختلف، فاللقاء هنا كان وجها لوجه. إنه يوم 18 فبراير عام 1978حيث أعلن الموت عن نواياه بعد أن أدرك مدى خطورة المدعو يوسف السباعي. وكما حدث مع شحاتة أفندي، فقد أقبل الموت في أبعد اللحظات التي يمكن أن يتوقع مجيئه. فالموت كما قلنا سابقا لا يحب من يفهمه ويكره من يدركه وينتقم ممن لا يخشاه. وقد كان يوسف لا يخشى الموت، فهو على الرغم من مركزه المرموق لم يكن يحب إحاطة نفسه بالحرس والجنود. لذا فقد كان لقمة سائغة لمن سولت له نفسه قتل هذا الإنسان الذي هو طاقة متفجرة من الحب والعطاء. وكيف اغتالوه وهو القلب المعين الذي لا ينضب والذي لم يكن يخشى الموت أبدا، وكان الحب هو السلاح الأوحد الوحيد الذي كان يشهره السباعي أمام الجميع والذي دعا إليه الكثير من رفقاء السلاح الذين كانوا يؤمنون بالحب.

لكن الموت لم يمهل هذا المخلوق العجيب، الذي لم يكن له شاغل سوى سبر أغوار الحقائق الخفية والمجهولات، إلى أن صار قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة الكاملة التي خفيت عن البشر الذين ارتضوا بقشور الحياة. ويظهر الموت ليوسف السباعي مكشرا عن أنياب لا ترحم وقلب لا يشفق، فيدبر للمسكين الحبكة الدرامية النهائية لمشهد رحيله، وهو غير عالم بما خبأه الموت له يذهب بخطى ثابتة إلى حتفه.

 \”برصاصة غادرة، أطفأت يا موت وإلى الأبد..ابتسامة يوسف السباعي! لكنه لم يكن يخشاك أو يخافك.. أو يهابك\”[25]  

ففي ذلك اليوم أصبح يوسف السباعي شهيدا.. كأنه بطل من أبطال رواياته الأسطوريين. اغتالته أياد آثمة ممن يطلقون على أنفسهم فدائيين ووطنيين.. هؤلاء الذين ما توقف السباعي لحظة عن الدفاع عن قضيتهم أمام جميع المحافل الدولية مناديا بحرية بلادهم، مؤمنا بقضية تهم كل وطني عربي. نعم، لقد لقي السباعي مصرعه برصاص عربي، ومن جماعات تتستر وراء كلمة الفدائية، وترى أن طريق عودتها إلى وطنها لا يكون بمواجهة العدو في عقر داره، بل بمواجهة الشقيق الذي دفع ومازال يدفع من كل ما له من قوى لإعادة هذا الوطن إلى أصحابه.

إن مصرع يوسف السباعي في قبرص يكشف عن جهالة وعن جبن وعن تهرب هؤلاء القتلة من مواجهة واقعهم.. أولئك الذين لا يريدون أن يعرفوا أن مكان كفاحهم الحقيقي هو في داخل إسرائيل ذاتها، وأن رصاص مدافعهم يجب أن يوجه إلى العدو الحقيقي، لا لصدور الذين حاربوا من أجلهم وامتصت الأموال التي بذلت من أجل استمرار هذه الحروب أقوات شعبنا وأرجعتنا للوراء عشرات السنين.

وهكذا تنتهي المعركة الأزلية بين يوسف السباعي وبين الموت. ولكن ترى من الرابح؟ فالموت يعتقد أنه قد تخلص من ذلك الإنسان الذي طالما أرقه وأقلقه بسبب بحثه المتواصل عن حقيقة ما يختبئ خلف أقنعة الموت، فكلما ظهر الموت بقناع جديد كان يوسف السباعي له بالمرصاد، فكان ينقض على الموت في كل رواية مزيحا قناعا من أقنعة الموت التي تعود ألا يكشفها البشر، بل يستسلمون لهذا الوهم المسمى بالموت، جاعلين منه مخلوقا خرافيا له الحق في التحكم في مصائرنا دون أن يكون لنا الحق في الاعتراض. فها هو يوسف السباعي يكشف أقنعة الموت مصمما على ألا يستسلم حتى يدرك الحقيقة كاملة، وهنا يخطو الموت نحو أكبر خطأ وقع فيه، فبأخذه ليوسف السباعي من عالم الأحياء ووضعه في العالم الآخر، يكون بذلك قد كشف بنفسه عن آخر قناع يمكنه أن يتخفى خلفه.

وها أنت الآن يا الموت تقف أمام يوسف وقد سقط عنك القناع الأخير، وها هو يوسف السباعي يراك بلا أقنعة، يراك على حقيقتك، الحقيقة التي خفيت عن كل الأحياء، لكنها كشفت للأموات.. فهنيئا لك يا يوسف، فقد عرفت الحقيقة التي أرقتك مدى حياتك، والتي ستظل تؤرقنا حتى نلقاك ويقف أمامنا الموت مجردا من كل الأقنعة.

[1] يوسف السباعي، السقا مات(1952).

[2] مفيد فوزي في حوار مع يوسف السباعي: الحياة..الأمل ..الموت.

[3] د.نبيل راغب،اللقاء الثاني بين السباعي و الموت.

[4] مفيد فوزي في حوار مع يوسف السباعي: الحياة..الأمل ..الموت

ملحوظة: كل هذه المقالات نشرت مجمعة في كتاب تحت عنوان \”يوسف السباعي..في ذكراه الأولى\”.

[5] يوسف السباعي،نائب عزرائيل(1947).

[6] المصدر السابق

 

[7] يوسف السباعي ،أرض النفاق(1949)

[8] يوسف السباعي،إني راحلة(1950)

[9] المصدر السابق

 

[10] يوسف السباعي، السقا مات (1952)

[11] المصدر السابق

[12] المصدر السابق

[13] المصدر السابق

[14] المصدر السابق

[15] المصدر السابق

[16] يوسف السباعي ، نادية(1960).

[17] المصدر السابق

[18] المصدر السابق

[19] يوسف السباعي، نحن لا نزرع الشوك(1968)

[20] المصدر السابق

[21] المصدر السابق

[22] المصدر السابق

[23] يوسف السباعي ، العمر لحظة(1971).

[24] المصدر السابق

[25] مفيد فوزي ، الحياة..الأمل..الموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top